ثلاثية النبي عند جبران خليل جبران: من أورفليس إلى العبور الأخير
جوزيف جعجع*
جبران خليل جبران (1883 - 1931) لم يكن كاتباً عابراً في تاريخ الأدب، بل كان صوتاً كونياً يفتّش عن المعنى في الإنسان والوجود. حين أصدر كتابه الأشهر "النبي" عام 1923 في نيويورك، كان يضع حجر الأساس لمشروع ثلاثي يتجاوز حدود الأدب إلى فضاء الفكر والروح.
هذا المشروع، الذي أراده أن يكتمل في "حديقة النبي" (1933) ثم "موت النبي" الذي لم يُكتب، يشكّل قوساً وجودياً يرافق الإنسان في رحلته الكبرى: من خطاب المدينة في أورفليس، إلى حكمة الطبيعة في الحديقة، وصولاً إلى مواجهة الموت كذروة الحكمة وعبور أخير نحو الخلود.
"النبي" (1923) - صوت الإنسان في المدينة
في مدينة أورفليس، يقف المصطفى ليخاطب أهلها قبل رحيله، في سلسلة من الخطب الشعرية التي تتناول الحب، الحرية، الزواج، الأولاد، العمل، الدين، والموت... يقول جبران على لسان النبي: "الحب لا يعطي إلا ذاته، ولا يأخذ إلا من ذاته. الحب لا يملك، ولا يُملك، فالحب مكتفٍ بذاته". هنا يقدّم جبران الإنسان ككائن أخلاقي حر، يبحث عن المعنى في تفاصيل حياته اليومية. الحرية عنده ليست هبة من الخارج، بل انعتاق داخلي، والحب ليس امتلآكا بل قوة تصقل الروح. النص يتخذ شكل خطاب وداعي، لكنه في جوهره تأسيس لرؤية إنسانية كونية، حيث كل إنسان نبيّ في رحلته الخاصة.

"حديقة النبي" (1933) - الإنسان في الطبيعة والله
بعد عشر سنوات، صدر الكتاب الثاني بعد وفاة جبران، حيث يتحاور النبي مع تلاميذه في فضاء الحديقة. النصوص أكثر حميمية وتأملاً، وتكشف أن الطبيعة ليست مجرد خلفية جمالية، بل هي مرآة لله، ومدرسة روحية تعلّم الإنسان الإيقاع الكوني ودورة الزمن. يقول جبران: "في قلب كل شجرة أغنية، وفي كل نسمة صلاة، وفي كل صمت حضور الله". في الحديقة، يصبح الإنسان جزءاً من وحدة كبرى، حيث الله يتجلّى في الشجرة والنسيم والبحر، وحيث الموت يُرى لا كفناء، بل كإيقاع طبيعي يكتمل به المعنى. هنا يربط جبران بين الإنسان والطبيعة والله في علاقة عضوية، تجعل من الوجود كله صلاة مفتوحة، ومن الطبيعة كتاباً مقدساً يقرأه القلب قبل العين.
"موت النبي" - الإنسان أمام المصير واللانهاية
لم يُكتب الكتاب الثالث، لكن العنوان وحده مع رسم لوجه النبي تحت عبارة "Growing older" يكفي ليكشف اتجاه جبران: مواجهة الشيخوخة والموت كذروة الحكمة. في هذا الكتاب المفقود، كان جبران يتهيأ ليكتب عن الوجود واللانهاية، عن عبور الإنسان من حدود الزمن إلى فضاء الأبدية. الموت عنده ليس انطفاءً، بل عودة إلى الأصل، إلى الله، إلى اللانهاية التي تحتضن كل الكائنات. وكأن النبي يقول لنا: "ما الموت إلا انعتاق من قيود الزمن، وما الحياة إلا فصل في كتاب أبدي". غياب النص لا يفرغ المشروع من معناه، بل يجعل القارئ شريكاً في كتابة النهاية، وكأن جبران أراد أن يترك للإنسان حرية أن يواجه مصيره بنفسه.
إن ثلاثية النبي ليست مجرد نصوص أدبية، بل مشروع فلسفي يرسم رحلة الإنسان من المجتمع إلى الطبيعة، ومن الحياة إلى الموت. في هذا المسار، يقدّم جبران رؤية إنسانية كونية ترى الإنسان مركزاً للقيمة، والطبيعة مرآة لله، والموت لحظة اكتمال لا فناء. اكتمال كتابين وغياب الثالث لا يخلّ بالمشروع، بل يجعل القارئ شريكاً في كتابة النهاية عبر تجربته الخاصة مع الحياة والموت. العبرة الكبرى التي تقدّمها هذه الرحلة هي أن الحكمة ليست في الجواب النهائي، بل في السير المستمر نحو المعنى، حيث الإنسان يظلّ نبياً يبحث عن ذاته وعن موقعه في الكون، حتى آخر لحظة من وجوده.
* مدير متحف جبران - بشرّي
نبض